فصل: مطلب في تفاوت حروف الجرّ وألقاب الملوك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب قصه سيدنا شعيب عليه السلام:

هذا ما قصه اللّه علينا في أمر شعيب وقومه وكيفية إهلاكهم، اما ما ذكره القصاص فخلاصته أنه عليه السلام أرسله اللّه إلى اصحاب الأيكة فلم يؤمنوا فأرسل عليهم حرا شديدا أخذ بانفاسهم وحبس الريح عليهم سبعة أيام ولم يجدوا ما يقيهم منه حيث لا واقي من أمر اللّه فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة وهي الظلة المذكورة في الآية 189 من سورة الشعراء الآية، فاجتمعوا تحتها كلهم فالهبها اللّه نارا عليهم ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا جميعا، ثم أرسله إلى أهل مدين الذين كان ملوكهم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وكان ملكهم حين إهلاك الظلة، كلمن، فلما دعاهم إلى الإيمان ولم يؤمنوا أيضا أرسل عليهم جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة أخذتهم الرجفة من هولها فأهلكوا جميعا كما جاء في الآية 37 من سورة العنكبوت ج 2 وقالوا ان كلمن رثته بنته عند نزول العذاب بهم بقولها:
كلمن قد هدّد كن ** هلكه وسط المحلة

سيد القوم أتاه الـ ** ـحتف نار تحت ظلة

جعلت نارا عليهم ** دارهم كالمضمحلة

وليس هذا مما يعول عليه، والأحرى عدم صحته لأن العذاب نزل دفعة واحدة فمتى تمكنت من إنشاء هذه الأبيات، وعلى القول بأنها كانت مع المسلمين، فإن أباها لم يهلك بالظّلة لأن أصحاب الظلة أهل الأيكة الذي ذكرهم في الآية 189 من سورة الشعراء وأبوها هلك بالصيحة مع قومه أهل مدين، وهذه الزيادة أسقطت اعتبار صحة الأبيات فيها على فرض أنها مسلمة لم تهلك، وهكذا الأخباريون أحيانا يهرفون بما لا يعرفون، ولذلك لا يوقن بنقلهم قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} تشير هذه الجملة بالإجمال إلى سائر الأمم وأحوالها مع أنبيائها وفيها تخويف لقريش وتحذير من أن تكون عاقبتهم الإهلاك إن لم يؤمنوا كسائر الأمم الكافرة، وفيها حذف وإضمار أي فكذبوه {إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ} الفقر ودواعيه {وَالضَّرَّاءِ} المرض ولوازمه {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94} إلى ربهم فيرجعون عن كفرهم فيؤمنوا فيقبلهم ويعفو عنهم، وفي هذه الجملة زجر لكافة الكفرة بأن يقلعوا عما هم عليه وإلا فمصيرهم التدمير.
وتعريف لحضرة الرسول بأحوال الأنبياء مع أممهم وسنة اللّه فيهم تسلية له ليهون عليه ما يلاقيه من قومه من الأذى والتكذيب {ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} أي بدل البلاء والمحنة والشدة التي كانوا عليها بالسعة والصحة والرخاء مما يستدعي الإيمان بنا والانقياد إلى طاعتنا شكرا لنعمنا عليهم بدفع السيء عنهم وجلب الحسن لهم {حَتَّى عَفَوْا} كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وعفى تأتي بمعنى زاد قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} الآية 229 من البقرة في ج 3 وبمعنى كثر ونمى كما هاهنا، أما ما جاء في الحديث أعفوا اللحى واحفوا الشارب، بمعنى اتركوا اللحى لا تحلقوها وليس المراد لا تقصوا منها شيئا إذ يجوز أخذ ما زاد منها على القبضة والمراد بإحفاء الشارب الأخذ منه أيضا بحيث تظهر حواف الشفة، وقد غلط من فسّره بالحلق، لأن الرسول لم يفعله ولأنه مثلة والشريعة جميلة مجملة لا تأمر بما هو مثلة، ولهذا البحث صلة في الآية 187 من هذه السورة.
أما ما فسره أبو مسلم بأن المراد من عفوا اعرضوا عن الشكر، فليس بيانا للمعنى اللغوي بل أخذا من معنى الآية وليس بشيء {وَقالُوا} لما غفلوا عن استدراجنا إياهم ولم يعلموا كيفية إملائنا للظالم وأخذه على غرّة، واننا تارة نأخذ العاصين بالشدّة وطورا بالرخاء، وظنوا أن عادة الدهر هكذا مرة سيئا وأخرى حسنا، وأن الشدة لم تكن عقوبة، قال بعضهم لبعض اثبتوا على ما أنتم عليه كما ثبت آباؤكم من قبل إذ {قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} مثلنا فصبروا ولم يغيروا دينهم بسبب ما أصابهم، ولما أظهروا ما انطوت عليه سرائرهم إثر إنعامنا عليهم ولم يصغوا لنصح رسلهم أوقعنا بهم ما هدّدوا به {فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 65} بشيء من المخاوف لأنهم كانوا في مأمن من العذاب بزعمهم ولم يخطر مكروه ببالهم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا} باللّه ورسله وعملوا ما أمروا به وانتهوا عما نهوا عنه {وَاتَّقَوْا} الكفر والإفساد في الأرض {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ} من رياح لينة وغيث نافع {وَالْأَرْضِ} من نبات وثمر ولصببنا عليهم الخيرات من كل جهة {وَلكِنْ كَذَّبُوا} آياتنا ورسلنا {فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 96} من الأعمال الخبيثة وعاقبناهم بأنواع العذاب {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى} كفار مكة وأضرابهم فيشمل كل أهل قرية كذبت الرسل وأنكرت ما جاءتهم به {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا} عذابنا {بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ 97} أي لا يأمنوا وقوع العذاب بهم على غرة وغفلة أبت ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال يا بنتاه إن أباك يخاف البيات، أراد الآية المارة، رحمه اللّه رحمة واسعة، فيجب على كل عاقل أن يخاف هذا، لأن الموت يأتي بغتة والقيامة كذلك، فإذا حلّ الأجل لا يستطيع القائم القعود ولا القاعد القيام، ولهذا حث الشارع على الوصية، فلا ينبغي له أن ينام إلا ووصيته تحت رأسه، لئلا يفاجئه الموت فلا يتمكن من بيان ماله وما عليه، وما يريد أن يخصّ منه لأرحامه ولوجوه البر فيندم من حيث لا ينفعه الندم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ} يتبين من أحوال الأمم السابقة {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ} إهلاك {أَهْلِها} بنوع من أنواع العذاب الذي قصصناه عليك يا أكمل الرسل بأنا {لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ} أخذناهم {بِذُنُوبِهِمْ} كما أخذنا من قبلهم {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ} فلا نتركها تعي منافع الإيمان ونهملها وشأنها حتى تختار الكفر والشرك كما فعلنا بمن قبلهم من الأمم الباغية وإذا ختمنا على قلوبهم منعناها من قبول الإيمان {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 100} المواعظ الحسنة سماع قبول، أي لا يقبلونها لأنا لا نريد إيمانهم لخبث طويتهم وإصرارهم على الكفر.
قال تعالى: {تِلْكَ الْقُرى} التي بينا لأهلها طريقي الخير والشر كقوم نوح وعاد وصالح وهود ولوط وشعيب الذين ختمنا على قلوبهم لعلمنا بخبثها فلم ندعها تقبل نصح رسلهم وأهلكناهم ببغيهم {نَقُصُّ عَلَيْكَ} يا محمد {مِنْ أَنْبائِها} أخبار أهلها وأمر رسلهم معهم لتعلم ماهية مقاومتهم للرسل وعاقبة أمرهم معهم وتتيقن أنا ناصروك على قومك كما نصرناهم، ومهلكو من لم يؤمن بك كما أهلكنا من لم يؤمن بهم {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} مثلما جئنهم بالمعجزات {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} بعد رؤية ما أظهروه لهم من المعجزات {بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} قبل مجيء الرسل إليهم ورؤية آياتهم، بل استمروا على كفرهم وأصروا على عنادهم، وفاجأوا رسلهم بالتكذيب، ولم يلتفتوا إلى معجزاتهم، فكانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ولم يؤمروا ولم ينهوا وهذه الآية قريبة في المعنى من قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} الآية 28 من سورة الأنعام في ج 2، أي لو أحييناهم بعد معاينة العذاب لم يؤمنوا {كَذلِكَ} مثل هذا الطبع المحكم {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ 101} الذين سبق في علم اللّه أنهم لا يؤمنون من قومك ولو جاءتهم كل آية وأنهم يختارون الكفر عنادا {و} من جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة نقض العهد والميثاق لأنا {ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ} أي الأمم الخالية {مِنْ عَهْدٍ} أوفوا به لنا في عالم الذر، كما أنهم لم يوفوا بعهدهم لرسلهم، لأنهم كلما عاهدوهم على الإيمان نقضوا، فلا وفاء لهم البتة.

.مطلب في تفاوت حروف الجرّ وألقاب الملوك:

وجيء، بمن، هنا للتأكيد والإحكام كما نوهنا به في الآية 80 المارة ولا يعبّر عن مثل هذا بسيف خطيب أن زائدة لأنه قول زائد، إذ لا نزاع بأن قولك ما جاءني من أحد أبلغ من قولك ما جاءني أحد، وعليه يكون وجودها له معنى بليغ في النفوس والأسماع لا يكون بغيرها، وبني كلام اللّه على البلاغة لأنها من معجزاته وانظر لهذا الجناس التام المماثل بين قوله وما وجدنا وبين قوله: {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ 201} خارجين عن طاعتنا ناكثين ميثاقنا الذي أخذناه عليهم حين أخرجنا ذراريهم من ظهور أبيهم آدم عليه السلام المبين في الآية 170 الآتية، قال ابن عباس إنما أهلك اللّه أهل القرى لأنهم لم يحفظوا ما وصاهم به، وإن في صدر هذه الآية مخففة من الثقيلة وخبرها ضمير الشأن واللام، في لفاسقين اللام الفارقة بين أن النافية والمخففة حيث أوجبوا وجود اللام بعد أن المخففة، لئلا تلتبس بالنافية التي لا يأتي اللام بعدها، والمعنى أنه أي الحال والشان وجدنا أكثرهم فاسقين راجع الآية 45 المرة، وقال بعض المفسرين إنّ إن بمعنى ما واللام بمعنى إلّا، أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين وهو وجيه وفيه من البلاغة ما لا يوجد في التفسير الأول، وسياق صدر هذه الآية بواتي المعنى إلا أن مجيء اللام بمعنى إلّا شاذّ، لهذا قدمنا الأول مع اختيارنا للثاني لولا ذلك المانع، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى} بن عمران بآياتنا التسع الآتية بعد في هذه السورة {إِلى فِرْعَوْنَ} الوليد بن مصعب بن الريان ملك مصر المبالغ في الكبرياء والجبروت والإفراط حتى ادعى الإلهية وكلمة فرعون علم لكل من يملك القبط، كما أن النجاشي لمن يملك الحبشة وقيصر للروم، وخاقان للترك، وكسرى للفرس، والخليفة للمسلمين، والعزيز لمصر، وحمير لتبّع، وحمى للهند، وجالوت للبربر، ونمرود للصابئة، ومقوقس للاسكندرية {وَمَلَائِهِ} خص أشراف قومه بالذكر لأنهم إذا آمنوا آمن أتباعهم ولأن أتباعهم يشقون بعدم إيمانهم ويقتلون بعدم طاعتهم ويهانون لأجلهم {فَظَلَمُوا بِها} كفروا وجحدوا وأجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الآية 12 من لقمان في ج 2، {فَانْظُرْ} يا سيد الرسل {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 103} بالأرض حيث أمرهم إلى الهلاك، ثم شرع يبين له ما وقع لموسى مع قومه ليهون عليه ما يلاقيه من قومه بقوله جلّ قوله: {وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ 104} إليك وإلى قومك {حقيق} جدير فمن {عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} لأني رسوله والرسول لا يقول إلا الذي أرسل به ومن شأن كل رسول أن يكون أمينا على ما أرسل به وأن يؤديه كما أمر به إذا كان من مثله لمثله فكيف إذا كان من عند اللّه فهو حتما لا يتصور فيه إلا الحق والصدق.
وقرأ نافع عليّ بالتشديد وعليها يرتفع الجار والمجرور بالابتداء ويكون خبره أن لا أقول.
وقرأ عبد الله: {حقيق بأن لا أقول} على تقدير حرف الجر وهو على أو الباء فيكون التقدير {أنا حقيق بأن لا أقول} فتكون على بمعنى الياء كما كانت الباء بمعنى على في، قوله تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ} الآية 85 المارة.
ومن المعلوم أن حروف الجر تخلف بعضها أي تأتي من بمعنى الباء، والياء بمعنى على، وعلى بمعنى في وهكذا وقرأ أبي {بأن لا أقول} والأولى فيها وجوه:
1- أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير:
كذبتم وبيت اللّه حتى تعالجوا ** قوادم حرب لا تلين ولا تمري

وتلحق خيل لا هوادة بينها ** وتشقى الرماح بالضياطرة الحمرى

أي وتشقى الضياطرة بالرماح والضياطرة الرجال العظام فتكون كقراءة نافع.
2- تكون على حد ان ما لزمك فقد لزمته أي فلما كان قول الحق حقيق عليه كان هو حقيقا على قول الحق لإزماله.
3- أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هجني بمعنى ذكرني.
4 وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاقتضاء المقام، لاسيما وقد روي أن فرعون قال له إني رسول من رب العالمين فقال له موسى أنا حقيق على قول الحق واجب علي أن أقوله ولا يرضى الحق إلا بمثلي قال تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ} حجة واضحة {مِنْ رَبِّكُمْ} أضاف الاسم الجليل إليهم مع عدم اعترافهم به لتأكيد وجوب الإيمان، وإيذانا بأن ما يزعمونه من الألوهية باطل {فَأَرْسِلْ} يا فرعون {مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ 105} يعقوب عليه السلام لأنهم سكنوا مصر زمن يوسف عليه السلام، الذين خذلتهم بقهرك وتعمدت إذلالهم بظلمك وقصدت احتقارهم بكبريائك فدعهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة وطن آبائهم وخل سبيلهم من الرق بمقتضى أمر الحق وإلا سينزل بك وبقومك ما لم يكن بالحسبان كما وعدني ربي، وإنما سلطه اللّه عليهم بعد أن كانوا ملوكا قادة حكاما بسبب اختلافهم ونبذهم دين آبائهم، أي خل عنهم وأطلقهم وسلمني إياهم لأني من ولد إسرائيل وقد أرسلني اللّه لأخلصهم منك وأرشدك وإياهم إلى الايمان به وحده.